مقالات

أدب وأدباء.. لمحة عن قصة

كتب – محمد عبد الرازق

حلقتنا اليوم عن المفكر والكاتب والفيلسوف الدكتور
(مصطفى محمود)

هذا الرجل الذي تحول من طبيب إلي عالم وأديب،
وحدث ذلك مصادفة عندما أصيب بالتهاب رئوي حاد كاد أن يقضي عليه ويدمر رئته نهائيا وهو
لا يزال طالبا في كلية الطب، وكان لزاما عليه أن يظل طريح الفراش لفترة طويلة دون حركة
أو مجهود، واستغل الطالب وقتها وقته الطويل وأيامه الثقيلة بالقراءة في الفلسفة والأدب
وعلوم الفلك والذرة والحيوان والقرأن الكريم، الذي تحول من شكه إلى الإيمان المطلق
بوجود الله.

ومصطفي محمود  ألف 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية
والإجتماعية والسياسية، إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه
بالجاذبية مع العمق والبساطة يفهمه الجميع وكل مستويات التعليم.

وكان مصطفى محمود مقدّماً لأكثر من 400 حلقة من
برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان).

أنشأ عام 1979م مسجده في الجيزة المعروف بإسم
«مسجد مصطفى محمود»، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، وشكل
قوافل للرحمة من ستة عشر طبيبًا، ويضم المسجد الجمعية الفلكية بمسجد محمود، ومتحفاً
للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون، ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات
المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية، أُطلق على كويكب اسم (296753) مصطفي
محمود تكريما له.

أعرض اليوم لكم إحدى قصصه وهي: (نقطة غليان)

وهي مجموعة قصصية مكونة من 14 قصة قصيرة هي:

أغلى شيء، العزيز الذي لا يُنال، الرجل الذي عرف
ربه، تحولات الليل والنهار، الزهور البلاستيك، الرصاصة، حكاية الدكتور إسكندر، الحب
والموت، المبروك، ملاطفة، شكرًا لقد أديت وظيفتك، ذرة يورانيوم، الخروج، مخاليق. 

كان هذا هو اليوم الأخير في ” التأبيدة ” التي
قضى فيها السجين عشرين سنة من عمره وراء القضبان وهو يعد الأيام يوماً يوماً إنتظاراً
لتلك اللحظة التي يرى فيها النور.

وقد دخل إبراهيم السجن في جريمة قتل ..

ويذكر إبراهيم ما حدث دقيقة بدقيقة، و كأنما هناك
شريط سينمائي ناطق مجسَم بالألوان يدور في رأسه ولا يكف عن الدوران.

يذكر ما حدث حينما عاد إلى بيته في تلك الليلة
من يناير مبكراً على غيري عادة .. ووقف يقرع الباب ..

لم تأتي زوجته مهرولة كعادتها لتفتح .. وإنما
سمع حركة مضطربة خلف الباب، وسمع أقداماً تجري ولم يفتح أحد.

وعاد يقرع الباب وقد تحرك شك قاتل في صدره ..
وعادت الأقدام تجري في اضطراب، وسمع لَغطاً .. ثم أصوات أشياء تقع على الأرض وزجاجاً
ينكسر ونوافذ تصطفق ..

وحمل على الباب بكل قوته ودفعه دفعة هائلة، فانفتح
وقفز إلى الداخل ليرى زوجته واقفة مذعورة على اللحم، وشبح رجل يهرب من النافذة.

وترك كل شيء وانطلق يجري وراء الهارب.

ولم يستطع أن يلحق به فقد اندس في زحام المولد
وانقطع أثره، ولكنه عرفه وعرف من هو..

وفي اليوم التالي حمل سكيناً تحت جلبابه وذهب
إلى محل المكوجي، وقتل مُسعد المكوجي بضربة واحدة من سكينة قطع بها شرايين رقبته
..

وحينما حاول صاحب المحل أن يدافع عنه قتله هو
الآخر ..

ثم تكاثر عليه الناس وانتزعوا السكين من يده وسلموه
للبوليس.

ومن ذلك التاريخ وهو مُلقَى بالسجن.

وحكم عليه القاضي بالمؤبد.

ومضت عليه عشرون سنة كأنها عشرون قرناً وهو يعض
على نواجذه من الغيظ، لأنه دخل الزنزانة قبل أن يقتل زينب.

كان في عزمه أن يقتل الإثنين، وقد بدأ بالرجل
وفي نيته أن ينثني مسرعاً ليقتل المرأة و يستريح ..

ولكن الحوادث التي تلاحقت، وقتله لرجلين، ثم تكاثُر
الناس عليه، ثم اعتقاله، غَيَّر مجرَى الأمور ..

وأعطى المرأة عشرين سنة من العُمر ..

وحكم عليه بعشرين سنة من الكظم و الغيظ .. قضاها لا يفكر في شيء إلا لحظة يحز رقبتها بسكينه.

زينب .. التي عرف في حضنها اللذة والسكَن والراحة
.. والتي أعطاها رزقه وعرقه وشبابه .. خانته.

كم بات يحلم بأن يقطع لسانها الذي كان يقول له
.. بحبك يا إبراهيم .. وكم راح يهذى بأنه يغمس السكين في قلبها الذي كان يخفق في حضن
قلبه.

وكان يراها دائماً في خياله، جميلة طرية ريانة،
كأنها ثمرة يانعة فيها رائحة الحقل.

و كان يراها دائماً في حضن الرجل الآخر تُقبِلُه
وتوشوشه كما كانت تقبله وتوشوشه .. وكان يسمع غنج صوتها في ظلام زنزانته ، فيفور الدم
ويغلي في شرايينه.

وكان يسمع النبض يدق في دماغه .. ولكنه عاش يكظم
ويكتم في انتظار اللحظة التي يخرج فيها إلى النور.

وحينما جاء السجّان وفتح له الباب وقال له: مبروك يا إبراهيم .. إفراج ..

خرج كالريح ..

خرج كما يخرج الغضب من فم الغضبان ..

و كان أول شيء عمله، أن توجه إلى بيته والسكين
تحت جلبابه.

وكان باب البيت مفتوحاً ..

وأسرع داخلاً ..

وكانت المرأة راقدة مريضة تسعل.

وتسمر في مكانه حينما أطل في وجهها .. و شعر بدمائه
تبرد ..

ثم تتثلج .. وتجمدت مشاعره .. وأحس بجنونه يتبخر
من رأسه .. ثم أحس برأسه ذاته يتبخر.

لقد رأى امرأة أخرى تماماً غير تلك التي كان يحلم
بقتلها في زنزانته ..

رأى عجوزاً عجفاء سقطت أسنانها وانحنى هيكلها
وتجعدت بشرتها .. ذهبت النضارة وخبا الجمال .. وجف العود الريان .. وتيبست الأطراف
..

لم يبق شيء يقتله، أو يقتل الناس أنفسهم من أجله.

وخمدت الغيرة في قلب الرجل فجأة كأنما هبّت عليها
ريح جليدية .. وحل محلها مزيج غريب من الذهول

والدهشة والإشفاق.

ولم يدرِ الرجل ماذا قال لامرأته، فقد راح يقول
أي كلام ..

ثم ما لبث أن تسلل خارجاً و قد أصبح رجلاً آخر
غير الذي دخل السجن من عشرين عاماً.

وكما تغير الرجل فجأة .. فقد تغيرت الدنيا أيضاً
في عينيه فجأة، وراح يكتشفها كأنه مولود يحبو ويتعرف على الدنيا لأول مرة.

حينما جلس يشرب الشاي في القهوة علم بأن زملاءه
السباكين قد هاجروا للعمل في الخليج والسعودية والكويت.

وقال له القهوجي :

– إن السباك يعمل الآن بمرتب شهري خمسة آلاف ريال
في السعودية أي ألف جنيه شهرياً .. أما صغار العمال الذين آثروا البقاء في مصر .. فإن
الواحد منهم يكسب من السباكة مائة وخمسين جنيه في الشهر ..

وإن السباك مطلوب في كل مكان، وأن الذي يعرف كيف
يصلح حنفية يسمي نفسه باشمهندس ويركب عربة ملاكي.

وسرح إبراهيم بعينين ذاهلتين ..

كان كل شيء يتغير ويتبدل بسرعة هائلة، بينما هو
رابض كالتمثال في زنزانته يمضغ حقداً أسود لا يريد أن يزول.

المرأة أصبحت غير المرأة .. والرجل غير الرجل .. والصنعة غير
الصنعة ..
والبلد غير البلد.

بينما هو كتمثال من حجر صوّان يجتّر عذاباً لا
ينتهي.

يا لها من لحظة تافهة .. تلك التي توقف عندها
وكبّل نفسه بأغلالها عشرين عاماً ..

كيف يحدث أن يقتل الناس بعضهم بعضاً لأمور بمثل
تلك التفاهة ؟!

لقد قتل رجلين من أجل زينب .. ومن أجل حبه لزينب
.. ومن أجل شهوته لزينب .. ومن أجل غيرته على زينب ..

فأين زينب الآن .. ؟

وأين حبه لزينب .. ؟

وأين شهوته لزينب .. ؟

وأين غيرته على زينب .. ؟

لقد تبخرت زينب وكأنما كانت وهماً .. وخلفت شيئاً
مثل رماد المدفأة، وتبخر حبه لزينب كما تتبخر الأحلام.

وتبخرت شهوته كما يتبخر مستنقع في يوم صيف.

وخمدت غيرته كما تخمد شعلة أكلت نفسها.

يا لها من أمور تافهة يتقاتل من أجلها الناس.

كم تبدو تلك الأحداث الهائلة واللحظات الرهيبة
المفعمة بالغضب .. كم تبدو له الآن على البُعد أحداثاً صغيرة.

أمَا كان أولَى به أن يُطَلِّقها وأن يذهب كل
منهما لحاله، وأن يجرب كل منهما حظه من جديد دون أن تُراق كل تلك الدماء .. !

ولو أنه بدأ حياة جديدة في تلك الظروف من الرخاء
لَتزوج مَنْ هي أجمل من زينب، وأرق من زينب، وأوفَى من زينب ..

ولكانت عنده عربة .. ولربما هاجر مع الذين هاجروا
إلى السعودية والخليج واقتنوا الثروات، وذاق لذة الترحال والتنقل والأسفار، بدلاً من
ضياع العمر في الزنزانة وذُل المؤبد.

يا له من أمر تافه ذلك الذي عشت أطحنه تحت أضراسي
عشرين عاماً ..

ودلق إبراهيم بقية فنجان القهوة في جوفه وقام
ليتوضأ على صوت الآذان، وقد شعر بأنه أصبح خفيفاً مُجنَّحاً يكاد يطير مع كل خطوة.

ومضى إلى المسجد ليصلي .. وكأنه رجل آخر غير ذلك
الذى عرفه وعاشره ستين عاماً.

وعَجِبَ مِن أمر نفسه ..

وتساءل وهو يخطو إلى المسجد :

– كيف يحدث في لحظة أن يولَد العقل من الجنون
كما يولد النهار من الليل .. ؟

وهل يحتاج مثل ذلك الميلاد أن يدفع الإنسان ذلك
الثمن الباهظ من زهرة العمر .. ؟

إلى اللقاء في حلقه جديده من سلسلة أدب وأدباء.

محمد عبدالرازق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى