“حكايات عم شلبي”.. تأليف حسن خلف حسين
الحلقة الثالثة
كاذب ذلك الشيب الذي يزحف مسرعاً ليغطي سواد شعرنا،
هو لا يمثل عمراً بل يمثل أوجاعاً، وحتي الأسنان التي تتساقط تباعًا عند الكبر تمثل
إنهيار صمودنا صوب المعارك الحياتية التي نخوضها معركة تلو الأخرى، وتنتهى بفراغ الفم
من الأسنان كما فراغ الوحدة عند العجز والهِرم، في النهاية يأخذك شعور أن كل ما مضي
أخذ منك جزء ومضى بلا عودة.
أتاني العم “شلبي” مبتسمًا مهرولاً
وًقد أستل سيف الحماس كى أستمع إليه، بعدما ترك فى نفسى معارك من الوجع وجبال الأسى
فى جلستنا الماضية، يتبدل حالي فور رؤيتى ابتسامته البريئة النابعة من قلب شفاف، ذكاء
روحه التقية النقية كشفت ما فى نفسى وفضحتها بحنكة وخبرة عمره فقال بعفويته:
– أنا عارف المرة اللى فاتت عكننت عليك وكنت بايخ
وخليتك تعيط معايا، أهو أنا كدة زى الهبلة لما تمسك طبلة، أنا آسف وحياة حبيبك النبى
ما تزعل منى، أنا ما صدقت اقابلك، كل اللى بتقابلهم اليومين دول أجهزة الإستقبال عندهم
بايظة وممكن مش موجودة من أصله (قام محاولًا تقبيل رأسى ما جعلنى أضمه إلى صدرى بحنان
وأقبل رأسه وأقول له مغالباً دموعي):
– حبيبي يا شلبو، ياللا احكيلى حاجة عشتها وكنت
فرحان فيها، أقولك أحكيلى عن يوم جوازك، وطبعًا كان فيه ضم وسمسمية وانت فيه القبطان
اللي طالع يتمشى وعينه على طرف الممشى هههههه.
(نظرة حنان منه يتفحص وجهي فيها وقال):
– أنا اتجوزت الله يرحمها كانت أصغر اخواتها البنات،
وكانت زاهدة فى الدنيا، عمرها ما طلبت منى حاجة وقالت نفسى فيها، سبحان الله أنا من
نفسى أجيب كل حاجة فى البيت بوسع، عايزها مبسوطة وهى تزعل عشان بجيب كتير، تقولى كل
ده نعمل بيه إيه، حتى كنت اقولها عايز اشتري شقه بالقسط فى الأبراج اللي على الكنال
قدام سبس “دليسبس”، تقولى نعمل بيها إيه يا ابن الناس، كنت وقتها أدفع تلاتين
ألف جنيه والباقي على مهلى، شوف دلوقتى تساوى كام !!، كانت عايزة تبقى جنب امها فى
المنطقة الخامسه جنبنا و…..
(قاطعته
كاظما غيظي وبنظرة حادة مني):
– هو فين الفرح والزفة في اللي حكيته ده يا عم
شلبي؟ صبرني يارب
رد بحياء:
– جايلك اهو في الكلام معلش اصل انا رضعت من أمي
الله يرحمها لبن سخن، أصل انا مولود فى أغسطس، يعنى مكنتش تسيبه يبرد شويه !!
(مازلت أنظر إليه نظرتي الرخمة، فهم ما أقصد منها
وقال بهدوء):
– الله يرحمها أم محمد مراتي كانت منجدة لحاف
مخصوص، قالتلي أحطه فوق الدولاب لما سألتها عليه ليلة الدخلة قالتلى ده عشان لما الحق
ياخد أمانته يتحط ف الخشبة معايا، ساعتها اتجننت وقلت لها بقى احنا فى ليلة زى دى وانتى
بتفكرى فى إيه، والله حرام عليكى، مش بقولك كانت زاهدة فى الدنيا، الله يرحمك يا ام
محمد ويجعل مثواك الجنة (إنجرف سيل دموع لا يتوقف)، وأخذتني نوبة ارتباك ورعشة داخلية
وفشلت فى تهدئة الحال، لكن شعوره أنه وعدنى بعدم الكآبة، جعلته يتحامل على نفسه ويغير
موضوع ليلة الزفاف وقال:
– سيبني احكيلك عن أول مركب اشتغلت عليها، أومأت
له برأسى وداخلي مازال مهتزا، قال محاولا أن يبدو خفيف الروح وقال:
– قضيت عليها ست سنين كانت بتجيب أسمنت مائى من
رومانيا عشان مشروع نفق الشهيد أحمد حمدي، وكانت المركب دى قبطانها يونانى ومعاه مراته،
كانت عايزة تجوزني اختها، وكانت مبسوطة منى قوى حاسة إن انا مختلف عن المصريين البحارة
اللى معايا، وكانت تورينى صور العروسة تبارك الله، وتقولى انها جاهزة من مجاميعه وعندها
فيللا بجنينة، أصل فى اليونان العروسة هي اللى بتجيب كل حاجة عشان تتجوز، مع ذلك خلعت
عشان عايز بنت بلدى.
صمت قليلًا وأشاح بيده وقال:
– شكلك كدة مش مصدقنى، بتفكرنى بمهيص عليك واسرح
بيك، صح ؟ .. قول مش هازعل منك قول.. قول.
(أيقظني من غفوتي وقلت له):
– مصدقك يا أحلي شلبوكه وبصراحة إنت إنسان جميل.
(يقاطعني خجلًا منه ويقول):
– كان معايا ع المركب ولد بحار اسكندرانى مهياص
قوى يقولى.. مرة يا شلبوكة وأنا ماشى فى منطقتنا وكان فيه واد متغاظ منى عشان عياقتى
وانا لابس (الدنجريه) المعووج اللى كان اخويا حمو جايبه ليا من أطاليا، المهم دخل عليا
الولة طيطة ده شايل حتة قضيب سكة حديد نازل بيه عليا.. إتلقيته بدراعي يمين وشمال..
بعدين طلعت الخنصر من جيبي وقعدت أشفي فيه زي اللحمة والأتيخ.. شالوه حتت بُقع دم..
الظابط لما روحنا قسم القبارى طَلع مييين ؟ الواد “زكوة” اللى كان معايا
فى الفصل وكنت باركبه حصان وانا نازل الفسحة.. بعد ما رحب بيا وجبلى اللمون قالى بعد
المحضر هنروحوك يا هيمة بس وحياة أبوك تبقي ترجع بكرة “السوبح” بدرى عشان
ما تأذاش بسببك.. رديت عليه فورى أنت وحظك لو سحيت بدرى.
(إهتزت المنطقة المحيطة بضحكة شلبوكة بجلجلة وصراخ
وعطس ودموع، وأخذ يفسر لى مهيصة أبو اسكندر هيمة، ومع كل تفسير ضحكاته يزداد رنينها،
أعقبها كحة متلاحقة شديدة ثم صمت ودموع حارة حرارة وجع عمر مضى وتركه بائسًا.
بقلم الكاتب والروائى/ حسن خلف حسين
![]() |
حسن خلف |