“حكايات عم شلبي”.. تأليف حسن خلف حسين
الحلقة الثانية
الغريب أنني تركت هذا الرجل العفوي اللذيذ وأتاني الشوق
الحار إلي اللقاء الثاني، يبدو أنه ترك في نفسي بروحه الجميلة ومشاعره الرقيقة
توليفة ما، يزداد الحنين فيها إلي سماع حكاياته، وجدت عيناي تتجه نحو الطريق الذي
يأتي منه وأتمني ظهوره، بأدبه الجم ولهجته البورسعيدية الرشيقة وطعمها اللذيذ كما
الزلابية والتمرية فوقها السكر البودرة الناعم، أتي محاولاً السير في ثبات ولمحت
في عينيه معاناة أثر ثُقل مخزون يريد إفراغه، فبدأ الحديث بذاكرته القوية أدام
الله عليه هذه النعمة، أعطاني “مِلَبْسَة” بطعم القهوة حتى أستفيق معه،
ودفعني في كتفي كي أنتبه وقال:
– إنت عارف أنا بعد هزيمة يونية استمريت في الجيش برغم
اللوثة اللي أصابتني، وحلقت شعري زيرو ” أصلع” وحلقت حواجبى بالموس،
وبقيت أقف فوق مكان عالى وبأعلى صوت أخرف في الكلام وأشتم وأسب الظباط والعساكر
وكل قيادات الجيش، قيادة المعسكر تحملونى وعطونى عمل خفيف مع الإعفاء من الخدمة
الليلية والطوابير وياما سوقت عليهم الهبل، بقيت اروح اجيب التعيين وصايع باقي
اليوم، أخرج من المعسكر الوقت اللي اناعايزه ولا حد يتعرض لي.
![]() |
– (قاطعته) وقلت:
– ممكن تختصر وتعدي المرحلة دي لأني قربت اتخنق.
(يرمقني بعينيه مبتسمًا)، ثم رد بأدبه قائلًا مع دفعة
قوية بأصابعه في كتفي:
– ما هو انت لازم تسمع حكايتي لغاية ما أخرج من الجيش.
قلت له مداعباً:
– طب ياللا كلمني عن يوم تسريحك من الجيش بعد حرب
أكتوبر.
– ( رأيت في عينيه حزن دفين ومرارة سنين) وقال في أسي:
– هو انت بتقول فيها فعلا أعطوني شهادة ومكافأة عشرين
جنيه.
– (شعرت بجبل المقطم نزل من علياء وسقط فوق رأسي)، وقلت
ساخرا:
– عشرين جنيه بحالهم يا شلبوكة؟
– رد ضاحكًا ببكاء:
– ما هو ده سبب الغني اللي انا فيه، لدرجة مش عايش زي
خلق الله (دموع ساخنه) الحمد لله الحمد لله.
– (وقفت مرتبكاً مرتمياً في حضنه أقبل رأسه وأبكي في
نحيب مسموع مثله)، وظللنا دقائق على هذا النحو حتي سكتنا، وسألته حتى تتغير
الأجواء الكئيبة المريرة:
– على كدة تم تعيينك في وظيفة سُقع ؟
– يفكر وقال: – بفخر مصطنع – طبعًا في جراج المحافظة
أسوق مكروباص الموظفين، كنت أتقاضي راتب شهرى عشرة جنيهات وربع، الصراف يدينى
العشرة ويخنصر الربع جنيه بلطجة (ضحكات قهقهة من الخبل مع الهبل).
– أخذ العم “شلبوكة” يحكي في سلاسة الأسباب
التي جعلته يقدم علي استخراج جواز السفر البحري (الأسود)، ويشرح لي مدى أهميته
وبداية الشقاء في عالم البحار الصعب الممتع، وكان يدخل بصدره في أي مهنة فوق
السفينة، وأصبح في فترة وجيزة “جوكر” يستعان به في أي عمل، الكتاب كان
صديقه الوحيد في رحلته، أبعده عن سلوك البحارة وقت راحتهم من شرب الخمر المباح
وخلافه من المؤذيات، بدأ يكون مخزون ثقافي متنوع ويتعلم اللغة اليونانية بإتقان من
طاقم السفينة المعجبين بتميزه عن باقي أفراد البحارة أمثاله.
– لحظة صمت منه طويلة فيها تم حرق سيجارتين من بعضهما،
ومراقبة حركة الدخان الصاعد من فم العم شلبي جميل الروح، ثم استدار نحوي بشدة
وحركة عصبية يسألني بصوت هادئ خجول ونظرة ثابتة تلمع فيها عينيه العسليتين:
– علي كدة انت بتحبني زي ما بحبك ؟
(سؤال نزل علي عقلي وقلبي كما الزلزال أخرسني، وقلت في
نفسي يالك من رجل طيب نقي بلا حدود والله أحببتك ما بعد الحب).
بقلم الكاتب والروائى/ حسن خلف حسين
![]() |
حسن خلف
|